كلمات تكتبها أمّ في لحظة انهيار.
على دفتر مليء بالأوراق البيضاء أبدأ الحديث عن فراق كان فراقك و حبيب كان أنت و على بعد شارع أو شارعين من مرض الشّوق أقف مستندة على جذع شجرة حفظت ذات يوما تفاصيل نشأتك و ربّما تفاصيل خطفك.
كنت قبل سنتين من الآن أبكي آلام نساء فقدن أولادهن أو وجدنهم مقتولين و اليوم أنا أبكي نفسي و أبكيك لأني لا أعلم مصيرك.
أظنّ أنّهن كنّ أحسن مني حظا،على الأقل لم يعشن على وقع الغياب الطّويل أو جهل المصير مثلي.
تعوّدت أنا ووالدك على تركك تعود في أيّ وقت ظنا منا أننا نعلّمك الحرّية الشّخصية.
يحدث أحيانا أن نغتال أولادنا في لحظة جنون اعتبرناها ذات حزن نوبة عشقية.فكيف يحدث للمحبّ أن يقيّد حبيبه إلى جذع شجرة ويطلب منه ممارسة حياته الاجتماعية بصفة عاديّة؟
كنتَ تحت شجرة الصّنوبر تشارك أصدقاءك اللّعب عندما توقّفت سيارة بيضاء دعاك صاحبها للرّكوب ففعلتَ دون تردّد و عندما حذّرك أصدقاؤك قلتَ لهم:
-أنا أعرفه.
كان هذا ملخّص لحظاتك الأخيرة في الحي.هذا ما أخبرني به أصدقاؤك.
بدايات كثيرة و مختلفة لقصص اختطاف الأطفال و النّهاية واحدة لا مفر،الموت. و دوافع متشابهة في اختطافهم تكون في غالب الأحيان عداوة بين الوالد و المختطف،انتقام،غيرة و أحيانا يكون لأخذ عضو من الجسم و ترك الجثّة للكلاب.
******
لست أدري أين ضاعت إنسانيتهم و لا كيف استطاعوا التخلي عن كلّ القيم و المبادئ.
كان يمكن أن نعذرهم لو كان الأمر متعلّقا بأمّة تستنجد من أجل الخلود و ثقافة تصارع من أجل التعميم.نعم كان من الممكن ذلك رغما عنا فلعبة البقاء تستبعد العواطف من بنود دستورها و كذلك الإنسانية.تعترف تلك اللعبة بالدم فقط أمّا في حالتنا فلا أظنّ أن هناك داعيا لهكذا أعمال إجرامية تغتال الإنسانية بطريقة بشعة و تفقد الرّجل كرامته هذا إن كانت لديه أصلا فما وراء الخطف كما تبين في عديد الأحداث التي قرأنا عنها في الجرائد أنّ من يرتكبون هذه الجرائم منحرفون و شواذ تستحي البشرية أن ينتموا إليها و حتى الأفراد الحية الأخرى و كذلك الجماد.
من يرضى بسفاحين ينتهكون البراءة أصدقاء؟ -لا أحد.
ما قلته يبرّر موقفي كأمّ ترفض الصّفح عن أولئك السفّاحين مهما كان دافع جرمهم فلا يمكن يوما أن أتنازل عن حقّ براءة لم تجد منبرا تدافع من خلاله عن حقوقها.
اليوم على صفحات هذا الدّفتر أنطق باسم الأمومة،الأبوّة و الطّفولة و أيضا الألم.
*****
يمكن لقارئ أن يبكي عندما يقرأ قضيّة اختطاف و يعرف تفاصيلها و لكن لا أظنّ أن بإمكانه البكاء طيلة حياته من أجل طفل لا يعرف عنه شيئا غير أنّه توفي جرّاء تعرّضه للتعذيب.
و حدها أمّ الضّحيّة تستطيع فعل ذلك.ليس عن شهوة أو تمثيل بل عن فطرة فلا أمّ في الأرض تستطيع أن تنسى أنّ لها طفلا دفن حيا أو تركت جثّته مرمية للكلاب.
كنت قبل الآن أفكّر في إنشاء جمعية تساعد الأمّهات على تجاوز الصّدمة و اليوم أنا أنتظرها.
قد يأتي أحد أعضائها فيساعدني على تجاوز هذه المرحلة.
********
ظننت في السابق أنّ بإمكاننا بناء مستوطنة حبّ في عالم أصبح لا يعترف بغير الكره يملأ أرضه و يلوّن سماءه.
ظننت في السابق أنّ بإمكاننا إدخال بسمة في قلب يتيم و إرجاع حقّ رجل بالأمس قد أهين.
ظننت في السابق أن بإمكاننا قلب معادلة العصر ما دمنا لها رافضين و ما دمنا نعلم أنّ من يؤيّدونها منها خائفون.
ظننت و ظننت و ظننت.
لكن متى؟
الإجابة:-في السّابق.
أمّا حاليا فأظنّ أن أغلبية الناس سيّئون و أنّ لا أحد منهم يفهم ماذا نريد أن نقول.أظنّ أنّ فقدان حبيب ألفت وجوده هي نهاية العالم و أنّ بعد هذا الحزن لن يكون هناك فرح.
****
البعض يظنّ أنّ أحسن سبيل لاختزال الألم يكون بالبكاء. لا أنتمي إليهم فأنا أظنّ أنّ الكلام و البكاء معا هما من يساعداننا على الإنقاص من حجم الخسائر الدّاخلية كأبسط شيء غير مكلّف.
الكتابة أيضا بإمكانها مواساتنا فهي ذاتنا التي يجب أن لا نتخلّى عنها.
الذات التي ما اكتشفتها إلاّ بعد مرور عامين على غيابك.لم أكن أفكّر قبل الآن في الكتابة لأنني كنت منشغلة بانتظار أن يرنّ الهاتف و كثيرا ما كان المتّصلون يعبثون بحزننا،يوهموننا بأنّهم رأوك و عندما نستفسر يقولون لنا:
-لستم في هوليود حتى تتمسّكوا بالأمل.
لست أدري لماذا كانوا يتصرّفون بتلك الطّريقة،أشماتة فيَّ أم في والدك؟ و هل تسمح القلوب لأصحابها أن تشمت في هكذا مواقف؟أم أنّهم ينتمون لعصابة مجرمي العواطف؟
لا يهم.
**********
كانوا جميعا يتكلّمون عندما كنت صامتة أنتظر خبرا عنك و اليوم هم جميعا ساكتون عندما قرّرت الكلام.
لست أدري أين قرأت هذه العبارة بالضّبط و لكني أذكرها أو أذكر شيئا فيها:*لا أصعب من أن تبدأ الكتابة في الوقت الذي يكون فيه الآخرون قد انتهوا من قول كلّ شيء*.صعب جدا.
أستند إلى جذع شجرة كما قلت في البداية.رجفة غريبة في جسدي أجهل سببها،قد تكون تستحضر ذكراك عندما كنتُ أحضرك إلى هنا كلّ يوم.تتوقّف أمامي سيّارة سوداء ينزل منها طفل صغير يركض نحوي و يقول:
-أمّي،اشتقتُ إليك.
ضممته إلى حضني بقوّة كأنّه أنت.يقترب مني والده:
-سيّدتي اعذرينا.
وقفتُ من مكاني:
-لا بأس.
احمرّ وجهه يريد أن يبرّر موقف ابنه و يقول لي:
-لقد ماتت والدته قبل شهرين و أصبحت هذه عادته في التعامل مع أي امرأة يجدها.
كنتُ أريد أن أقول له و أصبحت عادتي أنا مذ فقدت ابني أن أضمّ كل ولد أجده أمامي و أقول له محمّد.لكني لم أفعل و انصرفت مباشرة.
صغيري هل أنت حي؟و إن كنت كذلك فهل أنت أيضا تعانق أي امرأة تجدها أمامك و تقول لها أمي؟
رجاء أحدث المفاجأة و ارجع إلى البيت لأضمّك إلى حضني و لا مانع إن كنتُ سأموت من الفرح.لا تعجب إن قلت ذلك فالموت شيء عادي كولادتنا.
تلك أحد أمنياتي و القائمة تطول يوما بعد يوم.
****
أتّجه نحو المنزل أكاد أسقط من شدّة الحزن و الشوق.في عتبته وجدتُ كيسا أسودا تنبعث منه روائح كريهة عرفتُ فيما بعد أنّها رائحة موت كان موتك فانهرت باكية لأفقد عندها قدرتي على المشي.
لا تقل لي*الموت شيء عادي كولادتنا* تلك عبارة تستعملها الأمّهات فقط.